عندما
تحركت(أكرة) باب المستشفى إلى أسفل، نظر إليها بفزع شديد المريض العجوز
المرهق الراقد على سريره؛ فهو في كل حركة (أكرة) يعتقد أنهم قد جاءوا
لينقلوه إلى أسوأ مكان يمكن أن يقيم فيه إنسان: السجن.
هذه
المرة اطمأن قليلا؛ فلم يكن من دخل من الباب إلا المحققون يستكملون
التحقيقات معه. شيء مقلق كثيرا أن يأتي المحققون؛ ولكنهم على كل حال أرحم
من السجانين الذين سيدخلون يوما ما في مشهد شبيه بمن يقتحم غرفة السجين
لنقله إلى غرفة الإعدام.
ساعات
ثقيلة ومحرجة من التحقيق، تختلط فيها مشاعر القلق والخوف والندم والحزن.
وأخيرا خرجوا ودخلت شريكة العمر تطمئن عليه؛ ولكن حركة (أكرة) أخرى لم تتح
لها الفرصة، فها هم المحققون يطلبون منها اصطحابهم إلى غرفة أخرى لبدء
التحقيق معها لأول مرة. لحظتها أحست الزوجة العجوز بما ينتظرها، فنظرت إلى
حاميها الذي كان ماردا لتستغيث به، فانكسرت عيناه إلى الأرض وفقد القدرة
على حمايتها وصار أضعف من أن يقول مجرد كلمة لا.. أضعف من يحمي نملة،
فتغيرت نظرتها إلى مزيح بين الإحباط والوداع الذي ربما يكون الوداع الأخير.
نظر
المريض العجوز هذه المرة إلى (أكرة) الباب بعد خروج رفيقة العمر، وأحس
بأنه فقد حتى (الونيس)، بعد أن فقد كل شيء في أسابيع معدودة، فقد السلطة
والمال والاحترام والحرية والأمان والأهل والأصدقاء، سار منكس الرأس إلى
سريره وتمدد كأنما تمدد في مثواه الأخير، يقول كل كيانه: هل أنا أحلم؟ وتحول ظلام الغرفة الصامتة إلى غول مخيف، وحاولت الدموع أن تتحرر من أسرها؛ ولكنها ظلت أسيرة مخنوقة كصاحبها.
أين
أنتم يا أسرتي الحبيبة؟ انتقلنا من أنوار القصور إلى غياهب السجون، أين
ذهبت يا سوزان؟ أين تنام الآن يا علاء؟ ماذا تأكل يا جمال؟ كيف يعاملكم
السجانون؟ كيف يتعامل معكم السجناء؟
ذهبتم
جميعا، وربما لن أراكم ثانية وإلى الأبد، لن نجلس معا، لن نأكل معا، لن
نضحك معا، لن نحلم معا. انتهت العيلة: الجد والأب والأم والأبناء والأحفاد،
لن يفخر أبناؤنا بنا مرة أخرى، لن يغفروا لنا؛ بل سنكون لهم مصدر خزي وعار
طوال حياتهم.
لقد تفرقنا ولا عودة، كل في سجنه، كل في حزنه، كل في ندمه، كل في همه.
آه..
لم أعد أجرؤ على النظر في عيون من حولي: الطبيب، الممرضة، الحارس،
المحقق.. لم أعد أجرؤ على النظر في عيون أي إنسان، وأنا الزعيم، الرئيس،
القائد، الذي لم يجرؤ ثمانون مليون على النظر إلى عينيه؛ ولكن الفارق كبير:
لم أجرؤ خجلا، ولم يجرءوا خوفا.
ولم تكن هناك سوى كلمة واحدة لم ينطقها لسانه؛ ولكنها كانت تعلو على الصمت: ما العمل؟
وما
أن أوشكت عيناه على النوم، تحركت (أكرة) الباب من جديد؛ ولكن هذه المرة
دخل رجل بخطوة عسكرية واثقة، فجأة وبهدوء شديد تحركت أضواء من أعلى صوب هذا
الوافد المخيف.
حسني الرئيس: يا إلهي إنه أنا، إنني هو حسنى مبارك قائد القوات الجويه!!
حسني القائد: .........
حسني الرئيس: هل نحن اثنان أم واحد؟
حسني القائد: اثنان أيها الرئيس... عفوا الرئيس المخلوع.
حسني الرئيس: هل أنت حي أم ميت؟
حسني القائد: نفس السؤال أسألك إياه: هل أنت حي أم ميت؟
حسني الرئيس: لا بد أن أحدنا حي والآخر ميت؟
حسني القائد: كل ما أستطيع أن أؤكده لك هو أنني لست أنت.
حسني الرئيس: ؟!
حسني
القائد: أنا مت وأنا في ذلك الزي العسكري الشريف، مت حتى قبل أن تصبح
نائبا للرئيس؛ ولكن جسدى احتلته روحك، ولا أعلم من أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟
لقد دمرت تاريخي ومستقبل أسرتي، لماذا فعلت كل ذلك؟ لماذا تنتقم منى ومن
زوجتي وأبنائي وأحفادي؟ والأهم من ذلك لماذا فعلت بمصر كل هذا؟ لماذا
انتقمت من مصر؟ لماذا دمرت مصر؟
حسني الرئيس: لا أفهم شيئا، لا أعي شيئا.
حسني القائد: هل تتذكر حياتي؟
حسني الرئيس: لم أكن أتذكر سوى ثلاثين عاما.
حسني القائد: هل أنت خائف من الموت الآن؟
حسني الرئيس: وهل أنا حي الآن؟
حسني القائد: لقد حانت لحظة الوداع.
حسني الرئيس: انتظر، ليتنا نتبادل الوجود، ليتني كنت أنا الميت وأنت الحي؟ حسني القائد: للأسف، سبق السيف العذل.
سار
حسني القائد نحو الباب، وأغلقه خلفه، وتحركت الأكرة للمرة الأخيرة، وعند
هذه اللحظة انطفأت الأنوار, و أغلق الستار، وساد صمت مطبق مميت