الفصل الرابع
وما ذنب الذي لم يصله قرآن ؟
هرش صاحبنا الدكتور رأسه ..
كان من الواضح أنه يبحث لي في الدكتوراه عن حفرة أو مطب يدق عنقي فيه .. ثم قال في هدوء وهو يرتب كلماته:
- حسنًا .. وما رأيك في هذا الإنسان الذي لم يصله قرآن ولم ينزل عليه كتاب .. ولم يأته نبي .. ما ذنبه .. وما مصيره عندكم يوم الحساب .. مثل اسكيمو في أقاصي القطبين .. أو زنجي في الغابات .. ماذا يكون حظه بين يدي إلهكم يوم القيامة.
- قلت له:
- دعني أصحح معلوماتك أولا .. فقد بنيت أسئلتك على مقدمة خاطئة .. فالله أخبرنا بأنه لم يحرم أحدًا من رحمته ووحيه وكلماته وآياته.
(( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) )) فاطر.
(( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً (36) )) النحل.
والرسل الذين جاء ذكرهم في القرآن ليسوا كل الرسل..
وإنما هناك آلاف غيرهم لا نعلم عنهم شيئًا .. والله يقول لنبيه عن الرسل:
(( مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (78))) غافر.
والله يوحي إلى كل شيء حتى النحل.
(( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) )) النحل.
وقد يكون الوحي كتابًا يلقيه جبريل .. وقد يكون نورًا يلقيه الله في قلب العبد .. وقد يكون انشراحًا في الصدر .. وقد يكون حكمة وقد يكون حقيقة وقد يكون فهمًا وقد يكون خشوعًا ورهبة وتقوى.
وما من أحد يرهف قلبه ويرهف سمعه إلا ويتلقى من الله فضلاً.
أما الذين يصمون آذانهم وقلوبهم فلا تنفعهم كتب ولا رسل ولا معجزات ولو كثرت.
والله قال أنه يختص برحمته من يشاء .. وأنه لا يسأل عما يفعل.
وقد يريد الله لحكمة أن ينذر أحدًا وأن يعذر آخر فيقبل منه أهون الإيمان.
ومن يدرينا .. ربما كانت مجرد لفته من ذلك الزنجي البدائي إلى السماء في رهبة هي عند الله منجية ومقبولة أكثر من صلاتنا.
على أن القراءة المتأملة لأديان هؤلاء الزنوج البدائيين تدل على أنه كان لهم رسل ورسالات سماوية مثل رسالاتنا.
في قبيلة الماو ماو مثلاً نقرأ أنهم يؤمنون بإله يسمونه " موجايى " ويصفونه بأنه واحد أحد لم يلد ولم يولد وليس له كفو ولا شبيه .. وأنه لا يرى ولا يعرف إلا من آثاره وأفعاله .. وأنه خالق رازق وهاب رحيم يشفي المريض وينجد المأزوم وينزل المطر ويسمع الدعاء ويصفونه بأن البرق خنجره والرعد وقع خطاه.
أليس هذا الـ "موجايى " هو إلهنا بعينه .. ومن أين جاءهم هذا العلم إلا أن يكون في تاريخهم رسول ومبلغ جاء به .. ثم تقادم عليه العهد كالمعتاد فدخلت الخرافات والشعوذات فشوهت هذا النقاء الديني.
وفي قبيلة نيام نيام نقرأ أنهم يؤمنون بإله واحد يسمونه " مبولي" ويقولون أن كل شيء في الغابة يتحرك بإرادة " مبولي " وأنه يسلط الصواعق على الأشرار من البشر .. ويكافئ الأخيار بالرزق والبرة والأمان.
وفي قبيلة الشيلوك يؤمنون بإله واحد يسمونه " جوك " ويصفونه بأنه خفي وظاهر .. وأنه في السماء وفي كل مكان وأنه خالق كل شيء.
وفي قبيلة الدنكا يؤمنون بإله واحد يسمونه " نيالاك " وهي كلمة ترجمتها الحرفية .. الذي في السماء .. أو الأعلى.
ماذا نسمي هذه العقائد إلا أنها إسلام.
وماذا تكون إلا رسالات كان لها في تاريخ هؤلاء الأقوام رسل.
إن الدين لواحد.
(( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) )) البقرة.
حتى الصابئين الذين عبدوا الشمس على أنها آية من آيات الله وآمنوا بالله الواحد وبالآخرة والبعث والحساب وعملوا الصالحات فلهم أجرهم عند ربهم.
ومعلوم أن رحمة الله تتفاوت.
وهناك من يولد أعمى وهناك من يولد مبصرا وهناك من عاش أيام موسى ورآه رأي العين وهو يشق البحر بعصاه .. وهناك من عاش أيام المسيح ورآه يحيى الموتى .. أما نحن فلا نعلم عن هذه الآيات إلا سمعًا .. وليس الخبر كالعيان .. وليس من رأي كمن سمع.
ومع ذلك فالإيمان وعدمه ليس رهنًا بالمعجزات.
والمكابرون المعاندون يرون العجب من أنبيائهم فلا يزيد قولهم على أن هذا " سحر مفترى ".
ولا شك أن صاحبنا الدكتور القادم من فرنسا قد بلغه من الكتب ثلاثة .. توراة وإنجيل وقرآن وبلغته .. فلم تزده هذه الكتب إلا إغراقًا في الجدل .. وحتى يهرب من الموقف كله أحاله على شخص مجهول في الغابات لم ينزل عليه كتاب .. وراح يسألنا .. وما بالكم بهذا الرجل الذي لم يصله قرآن ولم ينزل عليه كتاب .. ملتمسًا بذلك ثغرة في العدل الإلهي أو موهمًا نفسه بأن المسألة كلها عبث.
وهو لذلك يسألنا " ولماذا تتفاوت رحمة الله " .. لماذا يشهد الله واحدًا على آياته .. ولا يدري آخر بتلك الآيات إلا سمعًا.
ونحن نقول أنها قد لا تكون رحمة بل نقمة ألم يقل الله لأتباع المسيح الذين طلبوا نزول مائدة من السماء محذرًا:
(( إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (115) )) المائدة.
ذلك لأنه مع نزول المعجزات يأتي دائمًا تشديد العذاب لمن يكفر.
وطوبى لمن آمن بالسماع ودون أن يرى معجزة.
والويل للذين شاهدوا ولم يؤمنوا.
فالقرآن في يدك حجة عليك ونذير .. ويوم الحساب يصبح نقمة لا رحمة.
وعدم إقامة هذه الحجة البينة على الاسكيمو ساكن القطبين قد يكون إعفاء وتخفيفًا ورحمة ومغفرة يوم الحساب .. وقد تكون لفتة إلى السماء من هذا الاسكيمو الجاهل ذات ساعة في عمره .. عند الله كافية لقبوله مؤمنًا مخلصًا.
أما لماذا يرحم الله واحدًا أكثر مما يرحم آخر فهو أمر يؤسسه الله على علمه بالقلوب.
(( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) )) الفتح.
وعلم الله بنا وبقلوبنا يمتد إلى ما قبل نزولنا في الأرحام حينما كنا عنده أرواحًا حول عرشه .. فمنا من التف حول نوره .. ومنا من انصرف عنه مستمتعًا بالملكوت وغافلاً عن جمال خالقه .. فاستحق الرتبة الدنيا من ذلك اليوم وسبق عليه القول .. هذا كلام أهل المشاهدة.
وما نراه من تاريخنا القصير في الدنيا ليس كل شيء ..
ومعرفة الحكمة من كل ألم وحرمان أمر لا يعلمه إلا العليم.
والذي يسألني .. لماذا خلق الله الخنزير خنزيرًا .. لا أملك إلا أن أجيبه بأن الله اختار له ثوبًا خنزيريًا لأن نفسه خنزيرية وأن خلقه هكذا حق وعدل.
وكل ما نرى حولنا من استحقاقات هي عدل لكن معرفة الحكمة الكلية وإماطة اللثام عن هذا العدل أمر ليس في مقدور كل واحد.
ولعل لهذا السبب هناك آخرة .. ويوم تنصب فيه الموازين وينبئنا العليم بكل ما اختلفنا فيه.
ومع هذا فسوف أريحك بالكلمة الفصل .. فقد قال الله في كتابه أنه لن يعذب إلا من أنذرهم بالرسل.
((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ))
(15- الإسراء.)
هل أرحت واسترحت.
ثم دعني أقول لك يا صاحبي ..
إن أعجب ما في سؤالك أن ظاهره يوهم بالإيمان والإشفاق على الزنجي المسكين الذي فاته ما في القرآن من نور ورحمة وهدى .. مع أن حقيقتك هي الكفر بالقرآن وبنوره ورحمته وهداه .. فسؤالك أقرب ما يكون إلى الاستدراج والمخادعة وفيه مناقضة للنفس هي " اللكاعة " بعينها .. فأنت تحاول أن تقيم علينا حجة هي عندك ليس لها أي حجة.
ألا ترى معي يا صاحبي أن جهاز المنطق عندك في حاجة إلى إصلاح.