الفصل الحادي عشر
لماذا لا يكون القرآن من تأليف محمد؟
قال صاحبي وهو ينتقى عباراته:
- لا أريد أن أجرحك فأنا أعلم اعتزازك بالقرآن وأنا معك في أنه كتاب قيم.. ولكن لماذا لا يكون من تأليف محمد؟.. إن رجلا في عظمة محمد لا يستغرب منه أن يضع كتابا في عظمة القرآن..
سوف يكون هذا منطقيا أكثر من أن نقول إن الله أنزله. فإنا لم نر الله ينزل من السماء شيئا.. ونحن في عصر من الصعب أن نقنع فيه إنسانا بأن هناك ملاكا اسمه جبريل نزل بن السماء بكتاب ليوحى به إلى أحد.
قلت في هدوء:
- بل نحن في عصر يسهل فيه تماما أن نصدق بأن هناك ملائكة لا ترى، وبأن الحقائق يمكن أن تلقى إلى الإنسان وحيا.. فهم يتكلمون اليوم عن أطباق طائره تنزل على الأرض. كواكب بعيدة وأشعة غير منظورة تقتل، وأمواج لاسلكية تحدد الأهداف وتضربها.. وصور تتحول إلى ذبذبات في الهواء ثم تستقبل في أجهزة صغيرة كعلب التبغ.. وكاميرات تصور الأشباح.. وعيون ترى في الظلام.. ورجل يمشى على القمر.. وسفينة تنزل على المريخ.. لم يعد غريبا أن نسمع أن الله أرسل ملكا خفيا من ملائكته.. وأنه ألقى بوحيه على أحد أنبيائه.. لقد أصبح وجود جبريل اليوم حقيقة من الدرجة الثانية.. وأقل عجبا وغرابة مما نرى ونسمع كل يوم.
أما لماذا لا نقول إن القرآن من تأليف محمد عليه الصلاة والسلام.. فلأن القران بشكله وعباراته وحروفه وما احتوى عليه من علوم ومعارف وأسرار وجمال بلاغى ودقة لغوية هو مما لا يدخل في قدرة بشر أن يؤلفه.. فإذا أضفنا الى ذلك أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان أميا، لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم في مدرسة ولم يختلط بحضارة، ولم يبرح شبه الجزيرة العربية، فإن احتمال الشك واحتمال إلقاء هذا السؤال يغدو مستحيلا.. والله يتحدى المنكرين ممن زعموا أن القرآن مولف.
"قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله" استعينوا بالجن والملائكة وعباقرة الإنس وأتوا بسورة من مثله ومازال التحدى قائما ولم يأت أحد بشيء... إلا ببعض عبارات مسجوعة ساذجة سموها "سورة من مثله"... أتى بها أناس يعتقدون أن القرآن مجرد كلام مسجوع.. و لكن سورة من مثله.. أي بها نفس الإعجاز البلاغي و العلمي..
وإذا نظرنا إلى القرآن في حياد وموضوعية فسوف نستبعد تماما أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام هو مؤلفه.
أولا: لأنه لو كان مؤلفه لبث فيه همومه وأشجانه، ونحن نراه في عام واحد يفقد زوجه خديجة وعمه أبا طالب ولا سند له في الحياة غيرهما.. وفجيعته فيهما لا تقدر.. ومع ذلك لا يأتي لهما ذكر في القرآن ولا بكلمة.. وكذلك يموت ابنه إبراهيم ويبكيه، ولا يأقى لذلك خبر في القرآن.. القرآن معزول تماما عن الذات المحمدية.
بل إن الآية لتأتى مناقضة لما يفعله محمد وما يفكر فيه.. وأحيانا تنزل الآية معاتبة له كما حدث بصدد الأعمى الذي انصرف عنه النبي إلى أشراف قريش:
"عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى. أو يذكر فتنفعه الذكرى، 1- 4 عبس
وأحيانا تنزل الآية فتنقض عملا من أعمال النبي:
" ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" 67- 68- الأنفال
وأحيانا يأمر القرآن محمد بأن يقول لأتباعه ما لا يمكن أن يقوله لو أنه كان يؤلف الكلام تأليفا:
" قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم" 9- الأحقاف
لا يوجد نبي يتطوع من تلقاء نفسه ليقول لأتباعه لا أدرى ما يفعل ب ولا بكم.. لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا.. ولا أملك لكم ضرا ولا نفعا. فإن هذا يؤدى إلى أن ينفض عنه أتباعه.
وهذا ما حدث فقد اتخذ اليهود هذه الآية عذرا ليقولوا.. ما نفع هذا النبي الذي لا يدرى ماذا يفعل به ولا بنا.. هذا رجل لا جدوى فيه. مثل هذه الآيات ما كان يمكن أن يؤلفها النبي لو كان يضع القرآن من عند نفسه.
ثانيا: لو نظرنا بعد ذلك في العبارة القرآنية لوجدنا أنها جديدة منفردة في رصفها وبنائها ومعمارها ليس الا شبيه فيما سبق من أدب العرب ولا شبيه فيما أتى لاحقا بعد ذلك.. حتى لتكاد اللغة تنقسم إلى شعر ونثر وقرآن.. فنحن أمام كلام هو نسيج وحده لا هو بالنثر ولا بالشعر. فموسيقى الشعر تأتى من الوزن ومن التقفية فنسمع الشاعر ابن الأبرص الأسدى ينشد:
أقفر من أهله عبيد فليس يبدى ولا يعيد
هنا الموسيقى تخرج من التشطير ومن التقفية على الدال الممدودة، فهي موسيقى خارجية.. أما موسيقى القران فهي موسيقى داخلية: (والضحى. والليل إذ ا سجى) 1- 2- الضحى
لا تشطير ولا تقفية في هذه العبارة البسيطة، ولكن الموسيقى تقطر منها.. من أين؟ إنها موسيقى داخلية.
اسمع هذه الآيات:
"رب إني وهن العظم منّي واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا"4- مريم
وهذه الآيات:
"طه. ما انزلنا عليك القران لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى. تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى.
الرحمن على العرش استوى" 1-5- طه
فإذا تناولت الآيات تهديدا تحول بناء العبارة ونحتها إلى جلاميد صخر. وأصبح للإيقاع صلصلة نحاسية تصخ السمع:
"إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر. تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر"19- 20- القمر
كلمات مثل "صرصرا".. "ومنقعر".. كل كلمة كأنها جلمود صخر. فإذا جاءت الآية لتروى خبرا هائلا كما في نهاية الطوفان تقاصرت العبارات وكأنها إشارات "مورس " التلغرافية. وأصبحت الآية كلها كأنها تلغراف مقتضب له وقع هائل:
"وقيل يأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعى وغيض الماء وقضى ا لأمر"44- هود
هذا التلون في نحت الألفاظ وفي بناء العبارة وفي إيقاع الكلمات مع المعاني والمشاعر.. يبلغ في القرآن الذروة ويأتي دائما منسابا لا تكلف فيه ولاتعمل.
ثالثا: إذا مضينا في التحليل أكثر فإنا سنكتشف الدقة البالغة والإحكام المذهل.. كل حرف في مكانه لا تقديم ولا تأخير.. لا تستطيع أن تضع كلمة مكان كلمة، ولا حرفا مكان حرف.. كل لفظة تم اختيارها من مليون لفظة بميزان دقيق.
وسنرى أن هذه الدقة البالغة لا مثيل لها في التأليف.
انظر إلى هذه الكلمة "لواقح " في الآية:
"وأرسلنا الرياح لواقح"22- الحجر
وكانوا يفسرونها في الماضي على المعنى المجازى بمعنى أن الرياح تثير السحب فتسقط المطر فيلقح الأرض بمعنى "يخصبها" ثم عرفنا اليوم أن الرياح تسوق السحب إيحابية التكهرب وتلقى بها في أحضان السحب سالبة التكهرب فيحدث البرق والرعد والمطر.. وهي بهذا المعنى "لواقح " أيضا، ونعرف الان أيضا أن الرياح تنقل حبوب اللقاح من زهرة إلى زهرة فتلقحها بالمعنى الحرفي، ونعرف أخيرا أن المطر لا يسقط إلا بتلقيح قطيرات الماء بذرات الغبار فتنمو القطيرات حول هذه الأنوية من الغبار وتسقط مطرا. كها نحن أولاء امام كلمة صادقة مجازيا وحرفيا وعلميا، ثم هي بعد ذلك جميلة فنيا وأدبيا وذات إيقاع حلو.
هنا نرى منتهى الدقة في انتقاء اللفظة ونحتها، وفي آية أخرى:
(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون )188- البقرة كلمة "تدلوا ".
مع أن الحاكم الذي تلقى إليه الأموال في الأعلى وليس في الأسفل.. لا، إن القران يصحح الوضع، فاليد التي تأخذ الرشوة هي اليد السفلى ولو كانت يد الحاكم.. ومن هنا جاءته كلمة "تدلوا بها إلى الحكام " لتعبر في بلاغة لامثيل الا عن دناءة المرتشى وسفله.
وفي آية الجهاد:
"ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض " 38- التوبة
القرآن يستعمل كلمة " اثَّاقلتم " بدلا من تثاقلتم.. يدمج الحروف إدماجا، ويلصقها إلصاقا ليعبر عن جبن الجبناء الذين يلتصقون بالأرض "ويتربسون " فيها من الخوف إذا دعوا إلى القتال، فجاءت حروف الكلمة بالمثل "متربسة".
وفي آية قتل الأولاد من الفقر نراها جاءت على صورتين:
"ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم" 151- الأ نعام
"ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم "31- الإسر اء
والفرق بين الآيتين لم يأت اعتباطا، وإنما جاء لأسباب محسوبة.. فحينما يكون القتل من إملاق فإن معناه أن الأهل فقراء في الحاضر، فيقول: نحن "نرزقكم " وإياهم. وحينما يكون قتل الأولاد خشية إملاق فإن معناه أن الفقر هو احتمال في المستقبل ولذا تشير الآية إلى الأبناء فتقول نحن "نرزقهم " وإياكم. مثل هذه الفروق لا يمكن أن تخطر على بال مؤلف. وفي حالات التقديم والتأخير نجد دائما أنه لحكمة، نجد أن السارق مقدم على السارقة في آية السرقة، في حين أن الزانية مقدمة على الزانى في آية الزنى.. وذلك لسبب واضح، أن الرجل أكثر إيجابية في السرقة.. أما في الزنى فالمرأة هي التي تأخذ المبادرة، من لحظة وقوفها أمام المرآة تضع " البارفان " ولمسات " التواليت " وتختار الفستان أعلى الركبة فإنها تنصب الفخاخ للرجل الموعود.
"الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " 2- النور
"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"38- الماند
وبالمثل تقديم السمع على البصر في أكثر من 16 مكانا
"وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة"78- النحل
"وجعلنا لكم سمعا وأبصارا وأفئدة" 26- الأحقاف
"أسمع بهم وأبصر"38- مريم
"إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا"36 الإسراء
"وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم" 22- فصلت
"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"11- الشورى
دائما السمع أولا.
ولا شك أن السمع أكثر إرهافا وكمالا من البصر.إننا نسمع الجن ولا نراه.والأنبياء سمعوا الله وكلموه ولم يره أحد.
وقد تلقى محمد القرآن سمعا. والأم تميز بكاء ابنها في الزحام ولا تستطيع أن تميز وجهه. والسمع يصاحب الإنسان أثناء النوم فيظل صاحيا في حين تنام عيناه، ومن حاول تشريح جهاز السمع يعلم أنه أعظم دقة وإرهافا من جهاز البصر.
وبالمثل تقديم المال على الولد:
"يوم لاينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم" 88- 89- الشعراء
"إنما أموالكم وأولادكم فتنة، والله عنده أجر عظيم " 15- التغابن
"لن تغنى عنكم أموالكم ولا أولادهم من الله شيئا، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"
16- آل عمران
"أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون"55- 56- المؤمنون
"فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد ألله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا" 55- التو بة
"اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته" 20- الحديد
والأمثلة على هذا التقديم كثيرة والسر أن المال عند أكثر الناس أعز من الولد.
ثم الدقة والخفاء واللطف في الإعراب. انظر إلى هذه الآية:
"وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما"9- الحجرات
مرة عوملت الطائفتان على أنهما جمع "اقتتلوا" ومرة على أنهما مثنى "فأصلحوا بينهما" والسر لطيف.
فالطائفتان في القتال تلتحمان وتصبحان جمعا من الأذرع المتضاربة.. في حين أنهما في الصلح تتفصلان إلى اثنين.. وترسل كل واحدة عنها مندوبا، ومن هنا قال:
وإن طائفتان من المؤمنين "اقتتلوا" فأصلحوا "بيهما"!
حتى حروف الجر والوصل والعطف تأتى وتمتنع في القرآن لأسباب عميقة، وبحساب دقيق محكم.
مثلا تأتي كلمة "يسألونك " في أماكن عديدة من ا لقرآن:
"يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"219- البقرة
"يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي"85- الإسراء
"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج "189- البقرة
دائما الجواب بكلمة "قل ".. ولكنها حين تأتى عن الجبال:
"ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا"105- طه
هنا لأول مرة جاءت "فقل " بدلا من "قل ".
والسبب ان كل الأسئلة السابقة كانت قد سئلت بالفعل، اما سؤال الجبال فلم يكن قد سئل بعد، لأنه من أسرار القيامة، وكأنما يقول الله: فإذا سألوك عن الجبال "فقل ".. فجاءت الفاء زاندة لسبب محسوب.
أما في الآية:
" )وإذا سألك عبادى عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع " 186- البقرة
هنا لا ترد كلمة "قل " لأن السؤال عن ذات الله.. والله أولى بالإجابة عن نفسه..
كذلك الضمير أنا ونحن.
يتكلم الله بضمير الجمع حيثما يكون التعبير عن "فعل " إلهي تشترك فيه جميع الصفات الإلهية كالخلق، وإنزال القرآن وحفظه:
"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون،" 9- الحجر
"نحن خلقناكم فلولا تصدقون" 57- الواقعة
" إنا أنزلناه في ليلة القدر" 1- القدر
" أفرأيتم ما تمنون. أأنتم تخلقونه أم نحن الحالقون"58- 59- ا لواقعة
"نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالم تبديلا" 28- ا لإنسان
"ونحن " هنا تعبر عن جمعية الصفات الإلهية وهي تعمل في إبداع عظيم مثل عملية الخلق.
أما إذا جاءت الآية في مقام مخاطبة بين الله وعبده كما في موقف المكالمة مع موسى.. تأتي الآية بضمير المفرد
"إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى" 14- طه
الله يقول: "أنا" لأن الحضرة هنا حضرة ذات، وتنبيها منه سبحانه على مسألة التوحيد والوحدانية في العبادة.
ونجد مثل هذه الدقة الشديدة في آيتين متشابهتين عن الصبر تفترق الواحدة عن الأخرى في حرف اللام.
يقول لقمان لولده:
"واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور، 17- لقمان وفي آية أخرى عن الصبر نقرأ:
" ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور" 43- الشورى
الصبر في الأولى "من عزم الأمور" وفي الثانية "لمن عزم الامور".. وسر التوكيد باللام في الثانية أنه صبر مضاعف، لأنه صبر على عدوان بشري لك فيه غريم، وأنت مطالب فيه بالصبر والمغفرة وهو أمر اشد على النفس من الصبر على القضاء الإلهي الذي لا حيلة فيه.
ونفس هذه الملاحظة عن "اللام " نجدها مرة أخرى في آيتين عن إنزال المطر وإنبات الزرع:
"أفرأيتم الماء الذي تشربون. أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون. لو نشاء جعلناه أجاجا"، "أي مالحا" 68- 70- الواقعة وفي آية ثانية:
"أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه حطاما" 63- 65- الواقعة في الآية الأولى "جعلناه " أجاجا.. وفي الآية الثانية "لجعلناه " حطاما واللام جاءت في الثانية لضرورة التوكيد، لأن هناك من سوف يدعى بأنه يستطيع أن يتلف الزرع كما يتلفه الخالق، ويجعله حطاما. في حين لن يستطيع أحد من البشر أن يدعى أن في إمكانه أن ينزل من سحب السماء مطرا مالحا فلا حاجة إلى توكيد باللام.
ونفس هذه الدقة نجدها في وصف إبراهيم لربه في القرآن بأنه: "الذي يميتنى ثم يحيين" 81- الشعراء
"والذي هو يطعمنى ويسقين"79- الشعراء.
فجاء بكلمة"هو" جينما تكلم عن "الإطعام " ليؤكد الفعل الإلهي، لأنه سوف يدعى الكل أنهم يطعمونه. ويسمقونه، على حين لن يدعى أحد بأنه يميته ومجييه كما يميته الله ويجييه.
ونجد هذه الدقة أيضا حينما يخاطب القرآن المسلمين قائلا:
"اذكروني أذكركم "152- البقرة- ويخاطب اليهود قائلا:
"اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم"40- البقرة
فاليهود ماديون لا يذكرون الله إلا في النعمة والفاندة والمصلحة والمسلمون أكثر شفافية ويفهمون معنى أن يذكر الله لذاته لا لمصلحة.. وبنفس المعنى يقول الله للخاصة من أولى الألباب:
"اتقون يا أولى الألباب "197- البقرة- ويقول للعوام:
"اتقوا النار التي وقود ها الناس والحجارة"24- البقرة
لأن العوام لا يردعهم إلا النار، أما الخاصة فهم يعلمون أن الله أقوى من كل نار، وأنه يستطيع أن يجعل النار بردا وسلاما إن شاء. ونجد مثل هذه الدقة البالغة في اختيار اللفظ في كلام إبليس حينما أقسم على ربه قائلا:
"فبعزتك لأغوينهم أجمعين"82- ص
أقسم إبليس بالعزة الإلهية ولم يقسم بغيرها، فأثبت بذلك علمه وذكاءه، لأن هذه العزة الإلهية هي التي اقتضت استغناء الله عن خلقه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولن يضروا الله شيئا، فهو العزيز عن خلقه، الغز عن العالمين.
ويقول الله في حديثه القدسى:
"هؤلاء في النار ولا أبالى، وهؤلاء في الجنة ولا أبالى".
وهذا مقتضى العزة الإلهية.
وهي الثغرة الوحيدة التي يدخل منها إبليس، فهو بها يستطيع أن يضل ويوسوس، لأن الله لن يقهر أحدا اختار الكفر على الإيمان.. ولهذا قال "فبعزتك " لأغوينهم أجمعين.
"لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم"16- 17 الأعراف
ذكر الجهات الأربع، ولم يذكر من فوقهم ولا من تحتهم. لأن "فوق " الربوبية، "وتحت " تواضع العبودية.. ومن لزم مكانه الأدنى من ربه الأعلى لن يستطيع الشيطان أن يدخل عليه.
ثم ذكر إبليس أن مقعده المفضل للإغواء سوف يكون الصراط المستقيم.. على طريق الخير وعلى سجادة الصلاة، لأن تارك الصلاة والسكير والعربيد ليس في حاجة إلى إبليس ليضله، فقد تكفلت نفسه بإضلاله، إنه إنسان خرب.. وإبليس لص ذكى، لا يحب أن يضيع وقته بأن يحوم حول البيوت الخربة.
متال آخر من أمثلة الدقة القرآنية نجده في سبق المغفرة على العذاب والرحمة على الغضب في القرآن.. فالله في "الفاتحة" هو الرحمن الرحيم قبل أن يكون مالك يوم الدين.. وهو دائما يوصف بأنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء... تأقى المغفرة أولا قبل العذاب إلا في مكانين في اية قطع اليد: "يعذب من يشاء ويغفرلمن يشاء"40- المائده
لأن العقوبة بقطع اليد عذاب دنيوى.. تليه مغفرة أخروية.. وفي كلام عيسى يوم القيامة عن المشركين الذين عبدوه من دون الله.. فيقول لربه: "إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر الم فإنك أنت العزيز الحكيم"
فلا يقول فإنك أنت الغفور الرحيم تأدبا.. ويذكر الم العذاب قبل المغفرة.. لعظم الإثم الذي وقعوا فيه.
ونجد هذه الدقة القرانية مرة أخرى في تناول القرآن للزمن.. فالمستقبل يأتي ذكره على لسان الخالق على أنه ماض.. فأحداث يوم القيامة ترد كلها على أنها ماض:
"ونفخ في الصور"99- الكهف
"وانشقت السماء فهي يومئذ واهية"16- الحاقة
"وبرزت الجحيم للغاوين" 91- الشعراء
"وعرضوا على ربك صفا"48- الكهف
والسر في ذلك أن كل الأحداث حاضرها ومستقبلها قد حدثت في علم الله وليس عند الله زمن يحجب عنه المستقبل، فهو سبحانه فوق الزمان والمكان، والذا نقرأ العبارة القرآنية أحيانا فنجد أنها تتحدث عن زمانين نحتلفين، وتبدو في ظاهرها متناقضة مثل:
"أتى أمر الله فلا تستعجلوه"1- النحل
فالأمر قد أقى وحدث في الماضي. لكن الله يخاطب الناس بألا يستعجلوه كا لو كان مستقبلا لم يحدث بعد.. والسر كما شرحنا أنه حدث في علم الله، لكنه لم يحدث بعد في علم الناس، ولا تناقض.. وإنما دقة وإحكام، وخفاء واستسرار، وصدق في المعافي العميقة.
هذه بعض الأمثلة للدقة البالغة والنحت المحكم في بناء العبارة القرآنية وفي اختيار الألفاظ واستخدام الحروف لا زيادة ولا نقص، ولا تقديم ولا تأخير، إلا بحساب وميزان، ولا نعرف لذلك مثيلا في تأليف أو كتاب مؤلف، ولا نجده إلا في القرآن.
أما لمحات العلم في القران وعجائب الآيات الكونية التي أتت بالأسرار والخفايا التي لم تكتشف إلا في عصرنا، والتي لم يعرفها محمد! ولا عصره فهي موضوع آخر يطول، وله جلسة أخرى.