قد يكون عنوان هذا الفصل فيه تناقض ظاهري مع موضوع الكتاب، ذلك أننا لا نتحدث هنا عن الغيب، ولكننا نتحدث عن الأدلة المادية التي يتحكم فيها العقل وحده ويشهد بها، ولذلك قد يقال: ما دمتم تتحدثون عن الدليل العقلي على وجود الله، فلماذا لجأتم الى الغيب؟
نقول: اننا لم نلجأ الى ما هو غيب كالملائكة والجنة والنار وحياة البرزخ الى غير ذلك مما يغيب عن عقولنا ولكننا نأخذ بالدليل المادي ما يؤكد لنا أن الغيب قائم وموجود، وأننا ان لم ندركه بعقولنا وأبصارنا، فليس معنى ذلك أنه غير موجود يؤدي مهمته في الحياة، ذلك أن وجود الشيء مختلف تماما عن ادراك هذا الوجود، فقد يوجد الشيء وأنت لا تدركه، ومع ذلك فهو يؤدي مهمته في الحياة، ثم تأتي نفحة من رحمة الله تجعلنا ندرك بعقولنا أن ما حسبنا أنه ليس موجودا انما هو موجود وقائم ويؤدي مهمته.
وقبل أن نبدأ ااحديث لا بد أن نعرف أن هناك نوعان من الغيب: غيبا نسبيا وغيبا مطلقا، الغيب النسبي لا يعتبر غيبا في علم الله وحده، بل يمكن أن يعرفه البشر، والغيب المطلق لا يعلمه الا الله سبحانه وتعالى.
ما هو الغيب النسبي؟ هو ما لا تعلمه أنت ولكن يعلمه غيرك، هب أن رئيس دولة ما اختار أحد الناس ليتولى منصب الوزارة، ولكن هذا الاختيار لم يبلغ صاحبه، اذن فهو غيب عن صاحبه، ولكنه معلوم لرئيس الدولة وكتبه الى آخره، ولنفرض أن لصا سرق من بيتك شيئا، أنت حين اكتشفت السرقة لا تعرف من الذي سرق؟ ولا أين المسروقات؟ ولكن الذي سرق يعرف نفسه ويعرف أين اخفى المسروقات, الخ..
اذن فهذا غيب نسبي، أي بالنسبة لك ولكنه معلوم بالنسبة لغيرك، هذا الغيب قد يعرفه بعض الناس، ولكن الغيب المطلق لا يعرفه أحد.
الله سبحانه وتعالى كشف لنا أنه يعلم الغيب النسبي والغيب المطلق، وأعطانا الدليل على ذلك حتى نعرف ان ما سيقع في هذا الكون موجود عند الله، ومعلوم ومعد، بحيث يخرج الى الدنيا بكلمة كن، ولذلك فاننا لا بد أن نلتفت الى آيتين كريميتين في القرىن الكريم، الآية الأولى قول الله تعالى:{انما أمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} يس 82.
أي أن الله سبحانه وتعالى حين يريد أن يظهر لنا شيئا يمارس مهمته في الحياة فانما يقول له" كن"، فيخرج بكلمة كن من علم الله سبحانه وتعالى الى كون الله فنعرفه، في هذه الآية لا بد أن نلتفت الى قول الله تعالى:{ يقول له}، وما دام الحق سبحانه وتعالى يقول:{ يقول له}، فمعنى ذلك أن هذا الشيء موجود، والا لما قال الله:{ يقول له} لأن الخطاب هنا لشيء موجود فعلا.
اذن فكل أحداث الكون وكل أحداث الدنيا والآخرة موجودة في علم الله سبحانه وتعالى، فاذا قال لها:{ كن} خرجت الى علم الناس، ولذلك فان يوم البعث مثلا موجود بكل تفاصيله وأحداثه في علم الله، والجنة موجودة، والنار أيضا موجودة، لذلك اذا قيل في الحديث الشريف:" هذا رمضان قد جاء تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتغل فيه الشياطين" البخاري ومسلم.
قد يتساءل البعض كيف يحدث هذا والجنة لم تخلق بعد، والنار لم تخلق كذلك، لأن وقتها لم يأت؟!. نقول: لا انهام مخلوقتان في علم الله بكل ما فيهما، فاذا جاء وقتهما أظهرهما الله، وفي هذا يلفتنا الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم:
{ يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل انما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها الا هو} الأعراف 187.
أي أن الساعة بكل أحداثها موجودة عند الحق سبحانه وتعالى، ولكنه لا يظهرها الا عندما يشاء، اذن فكل شيء موجود في علم الله وهو يظهره متى شاء وكيف شاء.
الآية الثانية قول الله تعالى:{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه} النحل1.
كيف يقول الحق سبحانه وتعالى:{ أتى} أي حدث باستخدام الزمن الماضي، ثم يقول: لا تستعجلوه باستخدام الزمن المقبل، أليس هذا تناقضا؟
نقول: انه لا يوجد أي تناقض لأن هذا الأمر الذي تتحدث عنه الآية الكريمة أتى في علم الله أي تقرر، وما دام قد تقرر فانه حادث بلا شك لأنه لا توجد قوة ولا قدرة تستطيع أن تمنع ما يريده الله، والله سبحانه وتعالى دائم الوجود لا تأخذه سنة ولا نوم حتى تظن أنه قد يغفل عن شيء دائم القوة والقدرة، وكل من في الكون يستمد قوته قدرته من الله سبحانه وتعالى.
وذلك ما دام الله هو القاهر فوق عباده جميعا، فمتى قال:{ أتى} يكون قد حدث فعلا، أما قوله:{ فلا تستعجلوه} أي لا تستعجلوا ظهوره وخروجه الى دنياكم المادية، أو لا تستعجلوا ظهوره لكي يصبح مشهودا لديكم، وهكذا نرى أنه لا يوجد أي تناقض أو تضارب في قوله تعالى:{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه}.
نأتي بعد ذلك الى الدليل الغيبي على وجود الله، ونبدأ بالحديث بالدليل من الانسان أولا، ومن الأحداث ثانيا، ومن قضايا الكون ثالثا:
فتلك هي النقاط الثلاث التي سنتحدث عنها في هذا الفصل، وان كانت هناك نقاط كثيرة لا يتسع المجال لها، لأنها ستتناول الدليل الكوني، والدليل الاحصائي، والدليل العلمي وغيره من الأدلة، ونحن هنا نعطي أمثلة يستطيع الناس أن يقيسوا عليها بعد ذلك، لأنه كما قلنا كل شيء في هذا الكون يشهد أنه لا اله الا الله، ويشهد بالدليل المادي.
اذا أردنا أن نبدأ بالنفس البشرية، فان الله شبحانه وتعالى أعطانا الدليل على أنه يعلم غيب النفس البشؤية وما تخفيه، واذا أردنا أن نبدأ بالنفس البشرية فاننا نبدأ بأن الله يسيطر على غيب هذه النفس سيطرة كاملة، ولذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم:{ وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه فان خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني انّا رادّوه اليك وجاعلوه من المرسلين} القصص 7.
اذن خواطر النفس البشرية هي في يد الله سبحانه وتعالى، والعقل البشري هو في يد الله سبحانه وتعالى يعطيه من الخواطر ما يشاء، ويمنع عنه ما يشاء ولكن الانسان خلق حرا في الاختيار، نقول: نعم حر فيما أراد الله له أن يكون حرا فيه وهو المنهج، ولكنه ليس حرا حرية مطلقة رغم أن الكثيرين ينكرون هذه الحقيقة، فالانسان حر، نعم فيما قال الله له افعل ولا تفعل، هذا نطاق الحرية الأولى في تطبيق المنهج، وهو حر أن ينطق بالشهادة شهادة الايمان أو شهادة الكفر والعياذ بالله، وهو حر في أن يفعل ما وضعه الله في منهجه وفي تطبيق هذا المنهج، ومنهج الله يشمل كل نشاطات الحياة.
فالاسلام ليس مجرّد شهادة لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، واقام الصلاة وايتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا، تلك هي أركان الاسلام الأركان التي بني عليها هذا الدين.
الاسلام أشمل من ذلك بكثير، ولكن العقل البشري فيما لا يخص المنهج خاضع لقدرة الله.
أمثلة من القرآن
ولكن ما هو الدليل؟ نقول اقرأ قول الله سبحانه وتعالى:{ تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد} المسد 1_5.
هذه السورة الكريمة نزلت في أبي لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان كافرا رفض الايمان، محاربا لدين الله ورسوله، نزلت هذه السورة وأبو لهب كافر، وكثير من صناديد قريش وزعماء مكة كانوا كفارا، ثم هداهم الله فأسلموا، مثل أبي سفيان وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم، وكان من الممكن أن يكون أبو لهب من هؤلاء وأن يهتدي للاسلام، ولو حدث ذلك لانعدمت قضية الايمان كلها، لأن القرآن قال ان أبا لهب سيموت كافرا، ولكن هناك شيئا آخر لا بد أن ننتبه اليه وهو أن هذا الاخبار بالغيب، بأن أبا لهب سيموت كافرا جاء في أمر اختياري أي يخضع ظاهريا لارادة أبي لهب.
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن أبا لهب ذهب الى مكان يتجمع فيه أهل مكة أو دعا زعماء مكة الى اجتماع وقال لهم: لقد قال عني محمد في القرآن ادعى أنه ينزل من السماء انني سأموت كافرا وسأدخل النار ولكني أقول أمامكم أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، لتعلموا أنه هذا الكلام غير صادق وأن محمدا لا يوحى اليه بشيء.
ماذا كان يمكن ان يحدث لو نطق أبو لهب بالشهادتين رياء أو نفاق ليهدم قضية الدين، ولكن حتى هذا التصرف الذي كان يمكن ان يخدم قضية الكفر التي كان أبو لهب أكبر أقطابها، حتى هذا الكلام لم يخطر على عقل أبيلهب ولم يقله، أليس هذا دليلا على أن ما يريده الله لا بد أن يحدث أيوجد تحد أكبر من أن يعطي الله أكبر أعداء الاسلام القضية التي يهدم بها هذا الدين، ثم لا يستطيع أن يستخدمها؟! أليس هذا دليلا على أن ما يقضي الله به غيبا لا بد أن ينفذ مهما بدا غير ذلك، وهل يوجد دليل أكبر من ذلك على أن الغيب عند الله لا بد أن يقع؟
ثم نأتي بعد ذلك الى دليل آخر، عندامت حولت القبلة من بيت المدقس الى الكعبة المشرّفة، نزل القرآن يقول:{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} البقرة 142.
واستخدام حرف السين هنا دليل على أن الأمر لم يحدث بعد، ولو أنه حدث لقال سبحانه وتعالى: قال السفهاء، ولكن قوله تعالى: يقول دليل على أن ذلك سيحدث مستقبلا، والآية نزلت في غير المؤمنين وتليت عليهم قبل ان يقولوا، ولو أنهم فكروا قليلا لسكتوا ولم يقولوا شيئا وحينئذ كان الناس سيتساءلون عن قول الله!
ويقولون لم يأت هؤلاء الذين وصفهم الله بالسفهاء الذين يقولون ما ولاهم عن قبلتهم، ولكنهم رغم أنهم يريدون هدم الدين، ورغم أن الدليل المادي لهدم قضية الايمان وضع في أيديهم الا أنهم لم يخطر على بالهم أن يمتنعوا عن القول، بل جاءوا وقالوا، لنعلم أن امر الله وغيب الله لا بد أن ينفذا مهما كانت هناك ارادة بشرية.
الحق سبحانه وتعالى أعطانا الدليل المادي على صدق قوله سبحانه وتعالى:{ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} البقرة 235.
فالذين لا يؤمنون لا يصدقون هذا الكلام، ويقولون أين الدليل العقلي على ذلك؟
نقول: ان الدليل العقلي موجود، فالله سبحانه وتعالى أنزل في القرآن الكريم أنه يعلم ما في النفس وما يدور فيها، اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:{ اذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله الله يشهد انّ المنافقين لكاذبون} المنافقون 1.
هذه الاية الكريمة قد نزلت عندما جاء عدد من المنافقين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنوا اسلامهم، ماذا قال المنافقون؟ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه شهادة حق، لأن الله سبحانه وتعالى يقول والله يعلم انك لرسوله!
اذن شهادة المنافقين وافقت علم الله سبحانه وتعالى، ولكن الله سبحانه يقول:كيف يكون المنافقون كاذبين وهم قد شهدوا بما قاله الله سبحانه وتعالى؟
نقول: ان الله أراد أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ما تقوله ألسنة هؤلاء المنافقين لا يوافق ما في قلوبهم، فهم شهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولكن بألسنتهم فقط، أما قلوبهم فهي منكرة لهذه الرسالة مكذبة بها، وهكذا أعلن ما في صدور المنافقين وما يخفونه عن الناس، ولم يجرؤا أن يكذبوا ما أعلنه الله، والقرآن الكريم فيه آيات كثيرة تعطينا الدليل المادي على أن الله يعلم ما يخفيه الانسان في صدره ولو لم ينطق به، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{ فانه يعلم السر وأخفى} طه 7.
والسر هو ما يسر به الانسان الى غيره، والسر دائما يكون بين اثنين، وما هو أخفى من السر، أي ما لا ينطق به الانسان لأحد بل يبقى في صدره لا يعلمه أحد غيره، والله سبحانه وتعالى يأتي ليفضح الكافرين والمنافقين يقول:{ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله} المجادلة 8.
اذن هم لم يقولوا هذا الكلام لأحد، ولكن قالوه في انفسهم فقط ولم تنطق به السنتهم، ولا تحركت به شفاههم.
ولكن الله فضحهم وأنبأ بما في صدورهم ولم يستطيعوا أن يكذبوه، ولو أن هذا كان صحيحا لقالوا لم نقل شيئا في أنفسنا، ولكنهم بهتوا بعلم الله سبحانه وتعالى فلم يستطيعوا الرد عليه ولو بالكذب.
وهكذا يظهر الدليل المادي أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما في الصدور وما تخفي الأنفس ولا تعلنه، وان الله عليم بما يحرص الانسان على اخفائه عن الدنيا كلها، فعلم الله يمتد الى غيب النفس البشرية، وما تحاول أن تكتمه أو تعتقد أن أحدا لا يعلمه.
دليل آخر
ثم ياتي الحق سبحانه وتعالى بدليل مادي آخر، على أنه هو عالم بالغيب، وأن ما يقوله حادث ونافذ، وأن الدنيا كلها لا تستطيع أن تغير قدرا من أقدار الله، ويعطينا الدليل المادي على ذلك فيقول تبارك وتعالى:{ الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون} الروم 1_4.
وهذه حقيقة تاريخية لا يمكن أن ينكرها حتى الملحدون، ولقد نزلت هذه الآية عندما قامت الحرب بين الروم والفرس، وكانت الدولتان تمثلان أكبر قوة في العالم في ذلك الوقت، مثل الاتحاد السوفياتي سابقا وامريكا الآن، وقامت الحرب بينهما وهزمت الروم في هذه الحرب، عندئذ فرح الكفار لأن الفرس كانوا دولة كافرة تعبد النار، والروم كانت دولة مسيحية، أي أهل كتاب، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يطمئن المؤمنين، ويذهب عنهم الحزن، فنزلت الآيات الكريمة تبشر بأن الروم سينتصرون في بضع سنين، وفي وقتها راهن المؤمنون الكفار على أن انتصار الروم سيحدث، وكان من المراهنين سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي راهن بأربعة من الابل على أن انتصار الروم سيحدث بعد سبع سنين، ولما مضت هذه المدة ولم يحدث شيء، فرح المشركون بذلك، وشق على المسلمين، فذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ما بضع سنين عندكم؟ قالوا: دون العشر، فقال لبي بكر: اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل، فما مضت السنتان حتى انتصر الروم على الفرس، ففرح المسلمون بذلك، ثم نهى الرسول أبا بكر ونهى الصحابة عن المراهنة، وقال: ان الاسلام لا يقرّها ولا يسمح بها.
من الذي يستطيع أن يتنبأ بنتيجة معركة حربية ستحدث بعد تسع سنوات؟ وماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الروم والفرس عقدا صلحا خلال هذه السنوات التسع، أو أن الفرس استعدوا قويا لهذه الحرب وهزموا الروم مرة أخرى، ومن الذي يستطيع أن يضمن نتيجة معركة حربية ستحدث بعد هذه الفترة الطويلة، بل ان أحدا لا يستطيع أن يضمن نتيجة معركة حربية ستحدث بعد لحظات، بل ان كل قائد لأي معركة حربية لا يكون واثقا من النصر قبل أن تبدأ لمعركة، أ, حتى عندما تبدأ، فلو علم أي قائد لمعركة حربية أنه سيهزم لما دخلها.
يأتي الله سبحانه وتعالى ليعطينا بالدليل المادي على أنه يعلم غيب السموات والأرض علم اليقين، فينبئنا بنتيجة معركة لا بين قوتين محدودتين، ولكن بين دولتين عظيمتين، وينبئنا عن هذه المعركة قبل أن تبدأ بتسع سنوات، ويخبرنا من الذي سينتصر ومن الذي سيهزم، وتأتي الأحداث وتقع الحرب، وينتصر الروم ويهزم الفرس كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى، وماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الفرس انتصروا على الروم؟! والقرآن كلام الله المتعبد بتلاوته الى يوم القيامة، وكيف كان يمكن أن يقف المسلمون في المساجد ويقرأون سورة الروم في الصلاة، مع أن نتيجة الحرب قد اختلفت عما في السورة.
وهكذا نرى مدى الاعجاز في أن الله سبحانه وتعالى، قد بيّن لنا بالدليل المادي على أنه يعلم الغيب، وأن علمه للغيب علم يقين لا بد أن يحدث وأن يتم، وأنه مسيطر على أمور الدنيا كلها، حتى في تلك الأشياء التي لا يمكن أن يتنبأ بنتيجتها أحد قبل حدوثها بتسع سنوات، بل لا يمكن أن يتنبأ بنتيجتها أحد حتى ساعة حدوثها، أليس هذا دليلا ماديا على أن الله سبحانه وتالى هو الذي يسيّر الأمر في كونه، وهو الذي اذا قال " كن" يكون، أليس هذا دليلا على أن الله سبحانه وتعالى القائل:{ انما أمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" يس 82.
قول من اله الخلق ومسيطر وقادر على كل أحداث كونه، فاذا عرفنا ذلك بالدليل المادي، ألا نفهم معنى الآية الكريمة:{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه}.ونصدق يقينا بأن الله سبحانه وتعالى وحده هو رب واله هذا الكون.
الوجود وادراك الوجود
على اننا لا بد أن ننتقل بعد ذلك الى نقطة هامة جدا، وهي أن عدم ادراكنا لوجود الشيء، لا يعني أن هذا الشيء غير موجود، فاذا حدثنا الله سبحانه وتعالى عن الملائكة وعن الجنة والنار وعن الشياطين، فلا بد أن نصدّق، ليس بالدليل الايماني فقط، لأن القائل هو الله، ولكنه سبحانه وتعالى في تحد أعطى الدليل المادي لغير المؤمن به على أن الغيب موجود وان لم ندرك وجوده، وأعطاه لنا من أحداث هذا الكون وما يقع فيه من ماديات.
فاذا أخذنا مثلا الجراثيم تلك المخلوقات الدقيقة التي تهاجم جسد الانسان وتصيبه بالمرض، هذه الجراثيم عاشت مع الانسان عمره كله، ولكننا في أول الحياة البشرية وحتى فترة قصيرة لم نكن نعرف عنها شيئا.
ثم تقدم العلم وتوصل العلماء الى الميكروسكوبات الالكترونية التي تكبر حجم الشيء ملايين المرات، فماذا رأينا؟ رأينا عجبا، ميكروبات لها شكل ولها حركة، ولها حياة ولها تناسل وتكاثر، ولها طريقة لتخترق جسم الانسان وتصل الى الدم، ولها تفاعلات مع كرات الدم.
عالم كبير لم نكن نعرف عنه شيئا بل كان غيبا منذ مائة سنة، ومع ذلك، ومع كونه كان غيبا عنا فهل لم يكن موجودا؟ لا، بل كان موجودا يؤدي مهمته في الحياة.
وكان العلماء في الماضي يعتقدون أن المرض معناه أن الأرواح البشرية قد تلبست جسد الانسان، وكانوا يضربون المرضى أو يكون أجزاء من أجسادهم حتى تخرج هذه الأرواح الشريرة، ثم تقدم العلم واستطعنا أن نرى رؤي العين هذه الجراثيم، وهي تتحرك وتتناسل، وتخترق وتحارب، بل استطعنا في تجاربنا العلمية أن ندخل هذه الجراثيم الى أجسدا الحيوانات، لندرس دورة حياتها وكيفية القضاء عليها.
وهكذا أعطانا الله الدليل المادي على أن ما هو غيب عنا موجود ويؤدي مهمته في الحياة، وأن عدم ادراكنا لوجوده لا يعني هذا الوجود.
واذا نظرنا الى قطرة الماء الذي نشربه تحت الميكروسكوب لوجدنا فيها أشياء عجيبة، أشياء فيها حياة ولها حركة، ولها كيان ولها دور في الحياة، ولكننا لم نكن نعرف منذ فترة قصيرة أن هذه الأشياء موجودة فهل كان هذا شهادة بعدم وجودها، أم أنها كانت في الحقيقة موجودة، ولكننا لا ندرك هذا الموجود؟!
فاذا انتقلنا الى الكون كله، وجدناه يشهد أن الوجود شيء وادراك الوجود شيء آخر تماما، وأن ما لا ندرك وجوده يؤدي مهمته في الكون، فلننظر مثلا الى الأقمار الصناعية والارسال التلفزيوني، هل كان أحد يعرف أن ما يقع في مكان ما في العالم يستطيع كل العالم أن يشهده في لحظة واحدة وفي نفس لحظة حدوثه؟ طبعا لم يكن أحد يعرف ذلك.
ثم كشف الله سبحانه وتعالى لنا من علمه ما مكننا من أن نعرف أنه موجود في الكون من الخصائص ما يمكن أن يجعل الانسان في كل الدنيا ليرى ويشهد ما يقع في مكان ما وقت حدوثه، ويرى الانسان وهو ينزل على القمر وهو يمشي فوقه.
كيف توصل الانسان الى هذا التقدم العلمي؟ هل اخترع غلافا جويا يستطيع أن ينقل الصور؟ هل جاء بمواد من خارج الأرض، أم بمواد من خارج خلق الله تعالى ليصنع منها الأقمار الصناعية التي حققت هذه الاتصالات؟ طبعا: لا، ولا يستطيع أن يقول: حتى أكبر الماديين، أن هذه الخصائص التي استخدمت قد أوجدها الانسان وخلقها، ولكن الغلاف الجوي والمواد في الأرض موجودة منذ خلق الله الأرض ومن عليها ولكن خصائصها كانت غيبا عنا.
وعندما جاءت مشيئة الله لتكشفها لنا وجدنا شيئا عجبا فاستخدمناه فأعطانا ما نحن فيه من تقدم علمي، أيستطيع أحد أن ينكر خصائص الكون وأنها كانت موجودة، قبل أن يعلمنا الله كيف نستخدمها وفيم نستخدمها، لا يستطيع أي مكابر أن يقول انها لم تكن موجودة، بل كانت موجودة ولكنها كانت غيب عنا، فلما أرادنا الله أن نعلمها كشفها لنا لنعلم أن ما هو غيب موجود، رغم أننا لم نكن ندرك وجوده.
فاذا نظرنا الى ما في السموات، نجد أننا كلما استطعنا أن نضع ميكروسكوبا أضخم وأقوى، استطعنا أن نكشف أجراما سماوية جديدة ونراها لأول مرة، هل كانت هذه الأجرام التي لم نكن نعرف عنها شيئا غير موجودة؟ أو لم تكن تؤدي مهمتها في الكون؟.
كانت موجودة وكانت تؤدي مهمتها في الكون، ولكن الله سبحانه وتعالى أخفى وجودها عنا الى أجل حدده، فلما كشف لنا هذا الوجود فعرفناه حتى نعلم أن ما هو غيب عنا موجود يؤدي مهمته في الكون ولو لم ندرك وجوده.
الغيب حقيقة
بل ان الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون الحياة الانسانية كلها شاهدة على أن الغيب موجود، أرادنا ان نكون شهداء على أنفسنا حتى لا تأتي يوم القيامة، ونقول: يا رب لم تعطنا الدليل العقلي على أن ما هو غيب عنا موجود، فضلّت عقولنا، يا رب لو أعطيتنا الدليل لكنا أمنا، ولذلك جاءت حياة البشر كلها شاهدة على ذلك، فالله سبحانه وتعالى أعطى الانسان وحدةه القدرة على أن يرث الحضارة ويضيف عليها، في حين سلب ذلك من كل مخلوقاته، ولذلك ترى أن حياة الحيوان مثلا كما هي منذ بدء الخليقة لم تتقدم، فلم تسمع عن أن مجموعة من القرود مثلا قد عقدت اجتماعا لترتقي بوسائل حياتها، وتبني لنفسها أماكن مكيفة الهواء تقيها حرارة الجو في المناطق الاستوائية.
ان لم نسمع أن مجموعة من الحيوانات القطبية قد جلست معا لتخترع وسائل تدفئة تقيها برد الشتاء القارس الذي يبيدها ويفنيها ويجعلها تتضور جرعا، ولم نسمع عن مجموعة من الحيوانات جلست تتداول للوصول الى دواء لمرض يفتك بها، أو للوصول الى مبيد حشرات لحشرة تنقل لها الأمراض، بل الرقي في حياة الحيوان أو النبات الذي يضعه هو العقل البشري.
ولكن الانسان مختلف عن ذلك تماما، فالعقل البشري قد أعطاه الله سبحانه وتعالى ميزة وراثة الحضارة البشرية، فكل جيل يبدأ حياته من حيث انتهى الجيل الذي قبله، ثم يضيف اليها، وقدرة العقل البشري على استيعاب التقدم العلمي لا حدود لها، ولذلك فان كل جيل من البشر يعرف شيئا كان غيبا عن الجيل الذي قبله، وكل جيل من البشر يتيح الله سبحانه وتعالى له من أسرار ما وضعه في كونه ومن قوانين هذا الكون ما لم يتح للجيل الذي قبله.
واذا كان هذا الجيل هو جيل الكمبيوتر مثلا، فان الجيل القادم سيكشف الله له من أسرار هذا الكون ما يعطيه علما يجعل أجهزة الكمبيوتر الحالية شيئا من مخلفات الماضي، وهكذا ترتقي الحضارات.
وكلما تقدم الزمن كانت سرعة ارتقاء الحضارات البشرية أكبر، لأن اضافات مستمرة تحدث لهذه الحضارات، وكل اضافة تفتح الطريق أمام اضافة أكبر.
لماذا أعطى الله سبحانه وتعالى البشرية وحدها، هذه القدرة على الرقي الانساني؟ لنعرف جميعا ونحن الذين أعطينا الاختيار في أن نؤمن أو لا نؤمن، لنعرف جميعا أن الجمود الفعلي في أن ما هو غيب عنا غير موجود هو خرافة، ونحس في حياتنا كل يوم ان هناك غيبا يصبح واقعا معلوما، ونرى المعجزة تحدث أمام أعيننا مرات ومرات، ونشهدها برؤية اليقين، علنا نتدبر ونفكر قليلا، فنعلم أن الله سبحانه وتعالى بحكمته ورحمته، قد أعطانا الدليل المادي على أن ما هو غيب عنا موجود.
فاذا اخبرنا بغيب لا ننكره، ولكننا نؤمن بوجوده، وبأن قدراتنا الحالية لا تصل اليه ولكنها قد تصل اليه في المستقبل.
وفي ذلك يلفتنا القرآن الكريم في قوله تعالى:{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} فصلت 53.
ونحن نعرف معنى قول الله تعالى:{ حتى اذا أخذت الأرض زخرفها وازيّنت وظنّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفركون} يونس 24.
وهكذا ونحن نراقب مسيرة الحضارة البشرية نعلم أن الله تعالى قد أخبرنا أن هذه الحضارة سترتقي وترتقي بما يكشفه الله لنا من قوانين هذا الكون حتى نظن أنا قادرون على أن نفعل ما نشاء في الأرض، وهذا الظن ليس حقيقة ولكنه مجرد ظن، لأن الله الذي كشف لنا هذه القوانين لم يخضعها لارادتنا، ولكنه سبحانه سخرها لنا فقط لنفعل بها ما نشاء.
فاذا اغتر الانسان واعتقد أن هذه القوانين من صنعه، أو أنه أخضعها بذاتية علمه، وبدون أمر الله تبارك وتعالى، يأمر الله سبحانه وتعالى هذه القوانين أن تخرج عن أمر الانسان فتدمره وتقوم الساعة.
الله أخبرنا بكنوز الأرض
واذا كنا نريد أن نتحدث عن دليل غيبي آخر يزيد من الأدلة العقلية التي تثبت وجود الله تعالى، فلا بد أن نقرأ قوله عز وجل:{ له ما في السموات والأر وما بينهما وما تحت الثرى} طه 6.
فلو قرأنا هذه الآية التي نزلت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، لعلمنا أن أحدا لم يكن يدري شيئا ولفترة دويلة عن معنى قوله تعالى:{ وما تحت الثرى}.
وكان كل ما تحت الثرى أو تحتت التراب، أو في باطن الأرض غيبا عنا ثم اراد الله سبحانه وتعالى أن يكشف لنا ما هو غيب عنا موجود وان لم نكن ندري بوجوده، فكشف لنا ما تحت الثرى، فوجدنا أن ما تحت الأرض يحتوي على كنوز رهيبة, وجدنا البترول والهب والمعادن والحديد وأشياء نفيسة، ووجدنا المياه الجوفية، ووجدنا عالما هائلا يحتوي على مواد لم نكن نعلم بوجودها ولا نعرف شيئا عنها.
وهكذا أعطانا الحق سبحانه وتعالى دليلا آخر على أن ما هو غيب عنا موجود، وان كنا لا ندرك وجوده، فلا أحد في هذه الدنيا يستطيع أن يدعي أنه هو الذي أوجد ما في باطن الأرض من كنوز، ولا أحد مهما بلغ علمه ولا علماء الأرض مجتمعين يستطيعون أن يدعو أنهم هم الذين أوجدوا هذه البحيرات الهائلة من البترول، أو هذه المعادن النفيسة كالذهب والفضة، أو الماس أو نحاس أو الحديد أو الألمينيوم أ, غيرها.
بل ان هناك كنوزا تحت الثرى مختفية عن أعيننا تفوق الكنوز التي ظاهرها لأعيننا فوق سطح الأرض، وهذه الكنوز لم تات من عدم ولم توجد في السنوات الأخيرة، بل كانت موجودة في باطن الأرض منذ أن خلقها الله سبحانه وتعالى، ولكنها كانت غيبا عنا فلم نكن نعرف بوجودها.حينئذ نكون قد وصلنا الى أن الله سبحانه وتعالى، قد أعطانا من الأدلة المادية والعقلية ما يؤكد لنا أن ما هو غيب عنا موجود وان لم نكن ندرك وجوده.
فاذا حدثنا الله سبحانه وتعالى عما هو غيب كالآخرة والحساب والجنة والنار، لا نقول ان الله يخاطبنا بما لا نستطيع أن تدركه عقولنا، وأننا لا نستطيع تصديق ذلك، بل نعود الى واقع الكون، ونتأمل ما فيه من آيات، وما وضعه الله لنا فيه من دلائل، ولو أننا تدبرنا لقلنا يا رب لقد أعطيتنا مع الدليل الايماني الدليل الفعلي الذي يقرب الصورة الى أذهاننا حتى ندركها، وليس لنا عذر يا رب يوم الحساب في أن نقول ان عقولنا لم تدرك، لأنك وضعت في كونك الأدلة المادية التي تثبت أن الغيب واقع موجود، وكان يجب أن تكون هذه الأدلة هي طريقنا الى الايمان، لا طريقنا الى الكفر والالحاد.
على أننا سننتقل بعد ذلك الى الآيات الأرضية، التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا بها، الى أنه لا اله الا هو الخالق والموجد والقادر.